البرهان المصري12/10/2011
كادت الحكومة الانتقالية المصرية تعرض على شاشة التلفزيون الرسمي صوراً
واعترافات لمعتقلين اندسوا في تظاهرة ماسبيرو القبطية مساء الاحد وأطلقوا
النار على المتظاهرين من جهة وعلى عناصر الجيش من جهة اخرى وتسببوا
بالمجزرة الرهيبة التي أعادت الثورة المصرية خطوات واسعة الى الوراء، بحيث
لم يبق منها سوى شريحة واسعة من الشبان والشابات وفريق صغير من النخبة
المصرية يعترف بوجود مسألة طائفية ويريد معالجتها فعلاً.
وكاد المسؤولون المصريون الانتقاليون يتهمون اميركا واسرائيل والسعودية
وقطر، ومعهم تركيا طبعاً، بإشعال شرارة الفتنة في مصر والعمل على تقسيم مصر
الى دويلات على غرار ما جرى في السودان، وعلى نحو ما يرى السلفيون
الإسلاميون والقوميون من بوادر اتفاق سايكس بيكو جديد يفتت العالم العربي
مرة أخرى، بالتواطؤ مع اجياله الشابة ذات الوعي الوطني والقومي المتدني،
التي خرجت الى الثورة من دون ثقافة سياسية ومن دون حساب المخاطر على مصير
الامة.
فجأة استعاد الخطاب الرسمي سيرته الاولى، وخرج وزير يتهم المتظاهرين
الأقباط بالاعتداء على الجيش وقتل عدد من افراده، وردد الاعلام ذلك الاتهام
وعرض روايات لشهود عيان رأوا جثث الجنود، ليتبين في ما بعد أن القتلى
كانوا جميعاً من المتظاهرين وكذلك غالبية الجرحى، وقد سقطوا بطريقة بشعة
توحي بالتعمّد والتصميم المسبق على ارتكاب المجزرة.. التي نالت الاستحسان
من معظم المرشحين للرئاسة الذين حذروا من الفوضى وحرصوا على تطبيق القانون،
وذهبوا إلى التعزية بالضحايا من دون ان يحملوا وعداً انتخابياً على الأقل
بإزالة التمييز التاريخي بحق أقباط مصر المحرومين حتى من ترميم او توسيع
كنائسهم، بل انتهزوا المناسبة الحزينة للمطالبة بإسقاط حكومة عصام شرف التي
تمثل اساساً حصيلة سقوط الدولة المصرية كلها.
كان تهاوي الخطاب الرسمي مفهوماً لأنه صدر عن بقايا العهد الماضي ورموزه
التي تحتاج الى وقت لاكتساب ثقافة الثورة والتكيّف معها. لكن ما لم يكن
مبرراً هو ان الخطاب الشعبي حافظ في الغالب على موقفه التقليدي من المسألة
الطائفية، وعلى نظرته الفوقية الغريبة الى الاقباط وديانتهم واجتماعهم، وهو
ما عكسه الإعلام الخاص الذي لا يزال بعض أقلامه يحنّ الى القطاع العام،
ويتبنى التوجيه السياسي والديني القديم الذي يفترض أن الثورة قد أنهت دوره
في تحديد السلوك الوطني المصري.
ولولا أن الجيل الشاب وقادته وكتابه تحرك مرة أخرى لمواجهة الظلم والاضطهاد
والدفاع عن الوطنية المصرية التي تسمو على الديانتين، وحماية الأقباط من
مجازر اضافية، سواء من المؤسسة العسكرية ام من الرعاع الاسلاميين، لكانت
الثورة المصرية، بمعناها الوطني والمدني والديموقراطي، قد تحوّلت الى اثر
بعد عين، مع العلم انها خطت خلال اليومين الماضيين خطوات واسعة الى الوراء،
لا يمكن وقفها بانتخابات نيابية او رئاسية، ولا يمكن تعويضها الا بالبرهان
على ان وعي مصر السياسي والاجتماعي قد تطور فعلاً.. وإلا فإن الثورات
العربية الأخرى يمكن ان تصاب بانتكاسة خطيرة جداً.
*نقلا عن "السفير" اللبنانية