أرضُ النيل والماعِتالإلهةُ «ماعت»، فى ميثولوجيا حضارتنا المصرية القديمة، هى ربَّةُ الحق
والعدل، وزوجةُ الإله «جحوتى» ربّ الحكمة والمعرفة والحساب والطبّ. رسمها
المصريون على هيئة سيدة جميلة تعلو رأسها ريشةٌ من طائر النعام، رمز
العدالة.
نشاهدُها، فى معابدنا المصرية القديمة، تمسك فى يسراها مفتاح الحياة،
وباليمنى تقبضُ على صولجان الحكم. ولذلك صار يُرمز لإلهة الحق والعدل
بالريشة فقط. وينسب للإلهة ماعت أيضًا التحكّم فى الفَلك وفصول السنة وحركة
النجوم، لهذا سُميت مصر القديمة: أرضُ النيل والماعت. كان ملوك مصر
القدامى يذهبون إلى معبد ماعت كل عام ليقدموا أمامها تقاريرهم التى تثبت
أنهم كانوا مع الشعب، يعملون على إرساء قيم العدالة والحق والمساواة بين
أبناء الوطن.
حسب كتاب «الموتى»، عند حساب المتوفى فى العالم السفلى، كان يؤتى
بالميت إلى قاعة المحكمة، فيبدأ القضاةُ فى سؤاله عن أفعاله فى الدنيا. هل
كان متّبعًا منهج الماعت، الطريق القويم، أم كان من المذنبين. ويبدأ الميتُ
فى الدفاع عن نفسه مُقرًّا بالاعترافات السلبية: لم أقتل، لم أسرق، لم
أكذب، لم أفضح إنسانًا، ولم أشكُ عاملا لدى رئيسه، وكنتُ أطعمُ الفقير،
وأسقى العطشان، وأكسو العريان، وأساعد الناس. ثم تأتى عملية وزن قلب الميت
للفصل فى صدق أقواله.
يوضع قلب الميت على الميزان فى كفةٍّ، وفى الكفّة الأخرى توضع ريشةُ
ماعت. فإذا رجحت كفة القلب، قال المحكّمون: «إن قلبَ الرجل بالحقيقة قد
وُزِن، وروحَه وقفت شاهدةً عليه، وقد وُجِد لا تشوبه شائبةُ شرٍّ، ولم يأتِ
بالأذى فى أعماله، ولم ينطق بألسنة السوء عندما كان على الأرض، ووجد
صادقًا عند وضعه على الميزان العظيم.» هنا يُمنح لقب: «صادق القول»، التى
تكافئ عندنا اليوم عبارة: «المغفور له» أو «المرحوم».
فيُعيدون تركيب قلبه فى جسمه المحنّط، ويعطونه ملابسَ بيضاء مشرقةً،
ويدخل الفردوسَ من فوره لينعم بحضرة الإله، ثم يلتحق بزوجته وأسرته،
ويخصصون له خدمًا وحشمًا يسمونهم «أوجيبتى» أى المجيبين المطالب. أما إن
رجحت كفةُ الريشة، وأخفق الميت فى اجتياز الاختبار الصعب، فهو هالكٌ لا
محالة، وداخلٌ الجحيم. إذْ تكون «عممُت» واقفة متربصةً تنتظر فى شغف وتشوّف
بجانب الميزان أن يلقوا لها القلبَ المذنب التعس، فتلتهمه على الفور،
وتكون تلك النهاية الأبدية للفقيد.
أما «عممُت»، فهى الجحيم كما تصوره المصريون. وهى مُلتهِمَة تخيّلية
بشعة لها رأس تمساح وجسم أسد وخلفية فرس النهر. وكانت هيئة المحكمة فى
العالم السفلى تتكون من 42 قاضيًا، بعدد أقاليم مصر، ويرأسهم أوزيريس.
هكذا كانت حضارتنا المصريةُ الرفيعة، وهكذا كان أجدادُنا العظماء، قبل
خمسة آلاف عام. أى قبل اليهودية، وقبل المسيحية، وقبل الإسلام.
وتكريسًا لمبدأ العدالة المفرطة لدى أجدادنا، لم يعرف المصرىُّ القديم
تعدد الزوجات. وكما نقرأ فى بردياتنا، كان حكماء مصر القديمة ينصحون
الشبابَ بالزواج المبكر، والإنجاب فى سنٍّ صغيرة، وإرساء مبدأ التكافؤ
الاجتماعى والاقتصادى بين الزوجين. وجاء فى الوصايا المصرية القديمة حثُّ
الزوج على حسن معاملة زوجته، وإعطاؤها حقوقها، والإخلاص لها، ومراعاة
مشاعرها، وحمايتها، وأن تكون المودة والرحمة الروحَ السائدة بين الزوجين.
ذاك أن تلك القيم من شأنها أن تنعكس رأسًا على تنشئة الأطفال على نحو سليم،
ما يخلق جيلاً صحيحًا نفسيًّا وصحيًّا وعقليًّا.
هكذا انتشرت الفضيلةُ فى مجتمعنا المصرى القديم، بسبب تتويج «العدالة»
على رأس المبادئ الإنسانية العُليا، وجعلها البندَ الأول فى الدستور المصرى
القديم. إذْ لم تخرج القوانين الوضعية عن إطار هذه القيم التى وردت فى
نصوص الأدباء والحكماء المصريين، وخطاباتهم وبردياتهم. إلا أن تكريس
العدالة لم يمنع وجود بعض التجاوزات والجرائم التى كانت تهدد أمن المجتمع
وسلامته. هنا كانت دولةُ القانون الحاسمة، التى لم تعرف التمييز بين مواطنى
مصر. ما أرقانا! ليتنا نتعلم من أجدادنا. مصرُ أولاً، وقبل كلّ شىء.
المصري اليوم