لماذا يجب أن ننزل غداً إلى ميادين التحرير؟
للكاتب / بلال فضل «هل فقد خيرة أبناء مصر نور أعينهم من أجل أن ترى مصر العدالة (طشاش)؟،
هل ضحى المصريون بأموالهم وأمنهم ومصالحهم من أجل أن تستعيد مصر ثروتها
المنهوبة حسب التساهيل؟، هل تعرض أبناء مصر للاختناق بفعل قنابل الغاز
المباركية من أجل أن تشم مصر نُفُسها وتستعيد نفسها؟
أم أنهم قدموا كل تلك التضحيات التى أذهلت العالم لكى ترضى مصر
بقليلها وتحمد ربنا على قد كده وتبوس إيديها وش وضهر وتعود ثانية لكى تنتظر
ما يجود به عليها حكامها؟.
إذا كنت قد رأيت كيف يؤدى التأخر فى الدواء إلى استفحال المرض، فلماذا
إذن يا جيشنا العظيم تتركنا نسأل كل هذه الأسئلة، وأنت تمتلك القدرة على
الإجابة الحاسمة القاطعة. يا جيشنا العظيم: أليست مصر أكبر من الجميع؟،
أليس دم الشهداء أغلى من حسنى مبارك وأولاده وأصدقاء عمره؟، أليس الوقت كالسيف؟،
ألا تفرق الثانية فى حسم المعارك وتغيير المصائر؟، ألا يستحق الشعب
المصرى أن يفرح مرة من (نِفسه») فرحة كاملة غير مقطوشة، لكى نطلب منه بعدها
أن ينتج ويعمل ويتطلع إلى مستقبل ليس فيه وزراء فشلة ولا عدالة منقوصة ولا
كرامة مهدرة ولا ثروات منهوبة؟».
أكتفى بهذا القدر من الأسئلة لأطرح عليك سؤالا جديدا: هل يبدو لك هذا
الكلام تسخينا ضد المجلس العسكرى فى إطار حملة الانتقادات الموجهة إليه؟،
هل أحسست أن هذه الأسئلة ترغب فى شعللة الأجواء للحشد من أجل الموجة الثانية من الثورة غدا؟،
إذا ظننت ذلك فأنا أحييك على حسن ظنك، لكن دعنى أقل لك إننى نشرت هذه
الأسئلة فى هذه الصحيفة يوم 3 مارس الماضى فى مقالة بعنوان (هيا إلى
الميدان)، ومجرد كونها مازالت صالحة للنشر كأنها مكتوبة اليوم هو فى حد
ذاته سبب كاف للنزول إلى الميدان غدا، فقد قامت الثورة أصلا لكى نعيش فى
بلاد لا ينشف ريقنا من أجل أن نحظى بإجابات قاطعة على أسئلتنا المصيرية.
إذا كنت تقرأ لى بانتظام ولست محتاجا لأن أعيد لك نشر ما سبق أن كتبته،
فأنت تعلم أننى سبق أن كتبت عقب فض الجيش لاعتصام تسعة مارس مقالا بعنوان
(أنقذوا شعار الجيش والشعب إيد واحدة) وأننى نبهت فى مقال سابق إلى أن
الثورة تواجه أخطارا كثيرة على رأسها إحداث وقيعة بين الجيش والثورة،
وتحول الكتلة الصامتة إلى قوة مواجهة ضد الثورة، وكم كنت أتمنى أن أكون
مخطئا فيما قلت لكن يؤسفنى أنك تدرك الآن أن هذين الخطرين أصبحا أقرب ما
يكون للتحقق بشكل كامل، وأرجو أن نكون صادقين مع أنفسنا لكى نسأل لماذا حدث
ذلك، وكيف انتقلنا من يوم 12 فبراير عندما تركت الملايين الثائرة ميادين
التحرير فى جميع أرجاء مصر وعادت إلى بيوتها ثقة منها فى المجلس الأعلى
للقوات المسلحة الذى تعهد بتحقيق مطالب الثورة، لنصل إلى يوم 27 مايو حيث
يشعر الكثيرون وأنا منهم بأننا أخطأنا خطأ جسيما بترك ميادين التحرير قبل
أن تتحقق جميع مطالب الثورة، بدلا من أن نضطر إلى الضغط المليونى المتواصل
للحصول بنشفان الريق على حقوق تُعتبر من أبسط بديهيات الثورة فى تاريخ
الثورات فى العالم كله، وكأن هذا البلد كثير عليه أن يفرح فرحة كاملة ويرى
إنجازات ثورية تتناسب مع التضحيات العظيمة التى قام بها أحراره.
إذا كان كلامى الآن يقلقك ويوترك، فأرجوك يا سيدى: تعال لنتحدث عن الغضب بهدوء.
يا سيدى ما أسهل أن تعلن ضيقك من الدعوات التى تتنادى إلى جمعة ثانية
للغضب وثورة ثانية ، وما أسهل أن تلوم مئات الشباب الذين قرروا كتابة
تدوينات تنتقد أداء المجلس العسكرى، فأنت بالتأكيد خائف وقلق من أن تتطور
الأمور ليحدث ما لا يحمد عقباه بسبب جموح بعض الثائرين وشططهم، ولك كل الحق
فى قلقك وخوفك، لكن هل لى أن أذكرك بأن ذلك الجموح والشطط هو وحده الذى
جعل مصر تعيش للمرة الأولى فى تاريخها بلدا به مواطنون لا رعايا، بلدا لديه
فرصة للمرة الأولى فى تاريخه أن يكون، لكن هناك قوى كثيرة لا تريد له أن
يكون، أو تريد له أن يظل بلدا على ما قسم أو على ما تفرج أو على قد ما يرغب
حكامه له أن يكون.
هل أنت مختلف مع الشعار الذى رفعه بعض الشباب الداعين إلى ثورة الغضب
الثانية «ماحسيتش بالتغيير وعشان كده هانزل التحرير»؟، وما له، أنا أشاركك
الاختلاف مع ذلك الشعار، بل أختلف أصلا مع تسميتها ثورة الغضب الثانية،
فأنا أميل إلى تسميتها بالموجة الثانية من الثورة، لأن تسمية ثورة الغضب
الثانية تعطى إيحاءات كثيرة غير مريحة لرجل الشارع قبل أن تكون غير مريحة
لرجال المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين قاموا عن حق بدور رائع فى حماية
الثورة، لكن دورهم هذا للأسف تحول إلى عبء على الثورة، وسأشرح لك ذلك
لاحقا، إذا أذنت لى بأن أجيبك أولا لماذا أختلف مع الشعار الذى تم رفعه
خلال الأيام الماضية.
أنا يا سيدى أرى أنه شعار صيغ بفعل الحماس فكان مجحفا بعض الشىء، فى
رأيى لا يمكن أن يقول منصف أنه لم يحس بالتغيير الذى شهدته مصر ولم يكن
يحلم به أى منا قبل يوم الخامس والعشرين من يناير، لكن مَن قال إن الثورات
تقوم من أجل التغيير، الثورات يا سيدى تقوم من أجل التطهير، التغيير عملية
يمكن أن يقوم بها حاكم ظالم يخشى ضياع عرشه فيقوم بإصلاحات جذرية أو واسعة
أو حتى محدودة، وقد كان آلاف الكتاب والسياسيين فى عهد المخلوع مبارك
يطالبونه طيلة الوقت بالتغيير، ولما قام هو ورجاله بسد منافذ التغيير كانت
الثورة، فبالله عليك أين هو التطهير الذى حملته الثورة حتى الآن؟.
شوف يا عزيزى منذ أن قامت الثورة قيل كلام كثير بعضه غث وبعضه سمين،
وبعضه حق وبعضه حق يُراد به باطل، لكن أفضله وأجمله وأهمه كلام قاله
المحامى القدير ناصر أمين فى حوار رائع مع الأستاذ إبراهيم عيسى فى برنامج
(فى الميدان) عندما تحدثا سويا عن تجارب عدد من الثورات السابقة التى تشكلت
فيها لجان للمصالحة والحقيقة والاعتراف والتطهير، أرجو أن تشاهد ذلك
الحوار على اليوتيوب لكى تدرك أن نزولنا إلى التحرير أمر حتمى لا غنى عنه
من أجل مصلحة هذه البلاد، وأن هذه البلاد لا يمكن أن تتقدم شبرا إلى الأمام
دون حدوث إصلاحات جذرية وتطهير حقيقى فى ثلاثة ميادين هى على حد تعبير
ناصر أمين: الأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام، وأرجوك أن تسأل نفسك ما الذى
حدث منذ أن قامت الثورة من إصلاح أو تطهير أو حتى مجرد سعى للتطهير
والإصلاح فى هذه المجالات، لتعرف أننا لسنا سائرين على الطريق الصحيح للأسف
الشديد.
ستقول لى الآن لكن كثيرا من الذين ينادون إلى النزول فى جمعة الغد لا
يتبنون هذه الرؤية بل يرفعون مطالب متعددة إلى درجة التناقض وبعضها شديد
الخطورة على مستقبل البلاد، سأقول لك وما له، التحرير بالنيات يا صديقى،
ولكل مواطن ما نوى، لعلك تذكر أنه كان فى الثمانية عشر يوما التى سبقت حكم
مبارك بعض من يطالبون بالإعدام الفورى لمبارك ونصبوا له مشنقة فى ميدان
التحرير، لكنهم عندما رأوا أنه سيقع هو وجلادوه تحت طائلة القانون عادوا
إلى بيوتهم منتظرين أن يشهدوا ذلك، فلم يشهدوا إلا تلكؤا وتلاعبا بمشاعر
الناس واستخفافا بدماء الشهداء وآلام الجرحى ومحاباة لمبارك وأسرته
والعادلى تؤدى إلى عدم تحقيق لمبدأ الردع العام الذى قامت القوانين أصلا من
أجل تحقيقه.
للأسف الشديد يحاول البعض وبينهم بعض قادة الإخوان أن يصوروا أن كل مَن
سينزلون إلى ميادين التحرير يريدون تغيير خارطة الطريق التى تدار الفترة
الانتقالية على أساسها، لكى نبدأ أولا بانتخاب جمعية تأسيسية تكتب دستورا
جديدا للبلاد ثم تقوم انتخابات رئاسية تعقبها انتخابات برلمانية، ورغم أننى
أتحفظ على هذا المطلب الذى يرفعه البعض، لأنه لا يحترم نتيجة الاستفتاء
الذى اختارت الأغلبية الكاسحة التى شاركت فيه خارطة طريق أخرى، وأعرف
كثيرين سيشاركون غدا وليسوا مقتنعين بحكاية تغيير خريطة الطريق ولا بموضوع
المجلس الرئاسى الذى لا يعدو فى رأيى كونه أكثر من رد فعل غاضب على سياسات
المجلس العسكرى غير الموفقة، إلا أننى أريد أن أسأل: ألم يكن من الممكن ألا
نرى مثل هذه المطالب تُرفع لو كان المجلس الأعلى قد قام بتمثيل جميع
التيارات السياسية فى لجنة التعديلات الدستورية بدلا من استفزاز القوى
السياسية باختيار ممثل وحيد عن تيار الإخوان المسلمين، ليدخل نفسه ويدخل
البلاد فى دوامة من الجدل حول ما إذا كان هناك تحالف بينه وبين الإخوان؟
ألم يكن من الأجدى والأوفق أن يدور حوار حقيقى بين المجلس وممثلى جميع
القوى السياسية حول نص الإعلان الدستورى وحول قانون مباشرة الحقوق
السياسية قبل أن يتم إعلانه للناس، بدلا من التعامل بطريقة «وإن كان
عاجبكم» التى تستند إلى حقيقة أن الغالبية العظمى ستختار أى بديل آمن،
لكنها فى نفس الوقت تغفل حقيقة أن القوى الثورية لن تفكر بمنطق الأغلبية
إلا فى ظل بناء سياسى ديمقراطى متكامل لا يجور على حقوق الأقلية ولا ينقل
مصر من استبداد إلى استبداد باسم الدين أو باسم المال أو باسم تحالف القوى
التقليدية فى الدولة مع الدين والمال؟
للأسف الأشد هناك مَن يحاول تشويه الموجة الثانية من الثورة بالتركيز
على مطالب غريبة الشكل وردت فى بعض صفحات الـ«فيس بوك» تدعو للتصادم مع
المجلس العسكرى، وأغربها يدعو إلى إجراء انتخابات فى جميع الوحدات العسكرية
إعمالا للديمقراطية، وهو مطلب مضحك ومبك فى الوقت ذاته، ولا أظن أن من
كتبه متآمر كما يحاول أن يصور البعض، لأنه لا يوجد متآمر يتمتع بهذه
السذاجة الثورية، فحتى المتآمرون يطرحون طلبات يمكن تلبيتها ليبدو أن من
يرفضونها متعنتون وغير راغبين فى الحل،
ومازلت أعتقد أن هذه المطالب ليست سوى رد فعل على سياسات المجلس غير
الموفقة، وفى ظنى وقد أكون مخطئا أن العقلاء لو تحدثوا مع هؤلاء المتحمسين
الذين رفعوا تلك المطالب لأقنعوهم بسهولة بأنه لا يوجد عاقل يمكن أن يدعو
إلى انتخابات فى مؤسسة عسكرية ولو حتى فى أعتى الدول الديمقراطية فى
العالم، والكل يعلم أن الحياة العسكرية حياة قائمة على الترتيب الهرمى فى
القيادة وعلى الضبط والربط والحسم والحزم والشدة والأوامر العسكرية، وكلها
معايير لا علاقة لها بالحياة المدنية على الإطلاق، ولتتناقشوا معهم بالعقل
حول المطلب البرىء الذى يدعو للإفراج عن الضباط الذين نزلوا إلى اعتصام
تسعة أبريل لأنهم بالفعل ارتكبوا مخالفة عسكرية صريحة تستوجب عقابهم، ولو
راجع أى من هؤلاء نفسه بهدوء وإنصاف لأدرك أنه حتى فى أمريكا التى تتمتع
بدرجة هائلة من الحرية فى نقد ممارسات المؤسسة العسكرية لم نشهد مسيرة
مليونية للتضامن مع الضابط الذى تم اعتقاله ومحاكمته عسكريا لأنه قام
بتسريب وثائق سرية إلى موقع ويكيليكس، كل ما فى الأمر أنه تم عمل حملة
توقيعات لتحسين ظروف اعتقاله وعدم ممارسة انتهاكات بدنية ضده،
وبناء عليه أضم صوتى إلى كل أصوات منظمات حقوق الإنسان التى التمست من
المشير حسين طنطاوى تخفيف الأحكام الصادرة ضد هؤلاء الضباط بالسجن عشر
سنوات مراعاة لمشاعرهم الوطنية. أعلم أن هذا الكلام سيجر علىّ حملة من
التشنيع والتخوين من قِبَل بعض الطفوليين الثوريين الذين يمارسون على من
يختلفون معهم فى الرأى نفس الممارسات المباركية التى ثاروا ضدها، لكننى
عاهدت نفسى منذ أن اخترت طريق الكتابة ألا أغضب ضميرى لكى أنال رضا الناس،
وضميرى يحتم عليّ أن أعلن أن وحدة المؤسسة العسكرية أمر فى مصلحة كل مصرى
مؤيدا كان أو معارضا، وأنه إذا كنا نمارس النقد فى حق المجلس العسكرى فنحن
نفعل ذلك لأنه أصبح الآن سلطة سياسية حاكمة تدير شؤون البلاد، لكن ذلك لا
ينبغى أن يجرفنا إلى إعلان تصرفات هوجاء نجرى فيها وراء مناضلين يختبئون
خلف أسماء مستعارة، حتى وإن كانوا حسنى النوايا فلا يعلم النوايا إلا الله.
لقد استاء البعض من حملة التدوين التى قام بها أكثر من ثلاثمائة مدون
لانتقاد سياسات المجلس العسكرى، وأخذ بعضهم يتصيدون جملا منها لكى يقدموا
على حد علمى بلاغات شفهية إلى قادة المجلس لتحريضهم على اتخاذ مواقف متعنتة
ضد دعوة الموجة الثانية من الثورة، وربما كان ذلك السبب الذى دفع إلى
إلغاء حلقة من برنامج (آخر كلام) مع الإعلامى الأهم فى البلاد الآن الأستاذ
يسرى فودة، والتى كان مقررا أن يشارك فيها اللواءان محمود حجازى ومحسن
الفنجرى مع كل من الدكتور علاء الأسوانى والعبد الفقير إلى الله،
وأعتقد أن إلغاء تلك الحلقة فى اللحظات الأخيرة حمل رسالة خاطئة تضاف
إلى سلسلة الأخطاء التى يقع فيها المجلس العسكرى فى هذه الفترة. بالطبع لست
متفقا مع كل كلمة فيها تجاوز أو إساءة حملتها بعض تلك التدوينات، لكننى
إحقاقا للحق، (ولست باحثا عن بطولة فظنى أن هذا ليس وقت البطولات على
الإطلاق) أشهد أمام الله والوطن بأننى فخور بهؤلاء الشباب الذين يناضلون
دفاعا عن الحرية داخل مصر وهم يحملون أرواحهم على أكفهم من أجل ما يعتقدون
أنه الحق، هؤلاء الشباب هم أجمل وأجدع وأنبل ما فى هذه البلاد ويجب أن يكون
كل مصرى وإن اختلف معهم فى الرأى فخورا بهم لأنهم يشكلون ضمانة أكيدة على
أن هذه البلاد لن تفقد روحها الثائرة المتمردة التى ستجنبها الوقوع ثانية
فى مستنقعات الرخاوة والبلادة والتناحة التى يفضل الأغلبية أن يمكثوا فيها
سنين عددا.
أعلم أن الروح العسكرية التى تعودت على الطاعة والتمام ستنفر من هذه
التدوينات الجريئة، لكننى أكرر أن المؤسسة العسكرية تلعب الآن دورا سياسيا
قد لا تكون راغبة فيه، لكنها يجب أن تؤديه طبقا للقواعد السياسية، ومن أهم
قواعد اللعبة السياسية أن تستمع إلى أشد الآراء اختلافا معك وليس إلى أكثر
الآراء قربا منك، ولو كان المجلس الأعلى يمتلك قنوات توصيل سليمة وغير
مليئة بالشوائب للتواصل مع الثورة وقواها لما وصلنا إلى هذا الوضع المؤسف،
وقد لاحظت أثناء الجلسات الثلاث التى التقيت فيها بقيادات المجلس
الأعلى مع عدد من الكتاب والمثقفين أن هناك حالة من خلط الحابل بالنابل فى
قوائم المدعوين تحت مسمى عدم إقصاء الجميع، وهو أمر يمكن أن أتفهمه فى سياق
حوار وطنى يجب أن يشمل الجميع فى مرحلة لاحقة بعد تحقيق أهداف الثورة،
لكننى لا يمكن أن أتصوره فى حالة الرغبة فى تجفيف منابع السخط والانتقال
إلى مرحلة البناء، لأن أبسط قواعد البناء تقتضى أن تبنى على أسس سليمة وأنت
تكتسب معلومات من مصادر لن تقوم بتضليلك أو إعطائك معلومات ملونة تبث فيها
سخطها على الثورة التى ستحرم الكثير من الفاسدين وأرباع الموهوبين من
امتيازات حصلوا عليها ظلما وعدوانا، ويشهد الله أننى فى كل مرة كنت أعبر
صراحة عن رفضى لهذه الطريقة التى تؤدى بصانع القرار إلى أن يكتسب انطباعا
خاطئا عن الواقع، فهو عندما يستضيف للحديث عن الثورة أناسا ضد الثورة
سيعطونه انطباعات خاطئة تؤدى به إلى قرارات خاطئة أو متراخية، ونظل ندور فى
حلقة مفرغة لا نهاية لها.
أفتح هنا قوسا لأقول إننى عندما كنت أكتب بعض ما يدور فى تلك الجلسات
وأنقله إلى الناس وأبدى إعجابى ببعضه وأناقش البعض الآخر الذى لا أوافق
عليه، كانت تأتينى رسائل من بعض القراء تتهمنى بأننى بعت نفسى وأصبحت عميلا
للمجلس الأعلى، فى ذات الوقت الذى كنت أتلقى فيه عتابا من بعض القيادات
العسكرية يعتبروننى فيه متشددا فى انتقاداتى وغير مقدر للدور الذى يلعبه
المجلس العسكرى فى حماية الثورة، وأظن أن نفس هذا الموقف خاضه الكثير من
الكتاب غيرى بل وكتبوا عنه، وهو أمر ليس غريبا فى ظل عقلية الاستقطاب التى
نعامل بها بعضنا البعض دائما وأبدا، وتحتاج إلى سنوات طويلة من ممارسة
الديمقراطية الحقيقية لكى نتخلص من هذه العقلية الاستقطابية المريرة.
من الآخر، لا أعتقد أن أحدا يمكن أن يدعى أنه يوجه المشاعر الثورية
الغاضبة الآن، فالثورات أصلا تقوم لكى يطلب كل ثائر ما يراه حقا لا بديل
عنه، ويتوقف نجاح كل ثورة من عدمه على قدرتها على إحداث توافق عام فى مطالب
الثائرين، ولذلك نجحت الموجة الأولى من الثورة لأنها شهدت توافقا عاما فى
مطالب الثائرين، وقد شهد أحد تلك المطالب نجاحا ساحقا على مرحلتين، المرحلة
الأولى كانت (ارحل يعنى امشى.. يمكن مابتفهمشى)، وهى لم تستمر أكثر من يوم
أو يومين قبل أن ننتقل إلى مرحلة (ارحل يعنى امشى ياللى مابتفهمشى)،
أما المطلب الأهم والأبرز (الشعب يريد إسقاط النظام) فقد حدث للأسف
توافق على فهمه بطريقة معينة بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين والقوى
المحافظة فى الدولة التى كانت جزءا رئيسيا من النظام، لكن أغلبية القوى
الثائرة تفهمه بطريقة مختلفة تماما، فإسقاط النظام بالنسبة لها يعنى إسقاط
النظام الأمنى الذى قمع حريات الناس وأذل كرامتهم ليتحرك تحت رقابة قضائية
كاملة، وتطهير النظام القضائى الذى كان بعض رجاله يلعبون فى عهد مبارك
أدوارا غير مفهومة هذا لو استخدمنا أكثر التعبيرات تهذيبا ولذلك لابد أن
نزيل منه كل الشوائب العالقة به والتى تؤدى إلى زيادة حالة البلبلة التى
يمكن أن تؤثر على شموخ البنيان القضائى الراسخ، وتغيير النظام الإعلامى
الذى مازال ينفر من الكلمة الجريئة ويقطع البرامج على الهواء دون أن يدرك
أن معطيات العصر تغيرت إلى الأبد فى ظل الإعلام البديل الذى لا يعترف
بالحجب ولا التعمية أيا كان هدفها.
إذا كنت تتفق مع قادة المجلس الأعلى فى الغضب من الذين يدعون إلى ثورة
غضب ثانية فأرجوك أن تتخلى قليلا عن القلق والخوف والتحيز وتضع نفسك فى
مكان الغاضبين، وتتأمل بعض تفاصيل المشهد: مصاب من أبطال الثورة اسمه مصعب
أكرم الشاعر يتصل من ألمانيا بالإعلامى القدير محمود سعد ليقول له تفاصيل
مخجلة ومخزية عن القتلة الذين لم يتعرضوا للحساب فى وزارتى الداخلية والصحة
حتى الآن، أرجوك استمع إلى المكالمة على اليوتيوب وأنت تتخذ قرارك
بالنزول: مصابون يتحدثون معى على الهواء عن ضغوط تمارس ضدهم لسحب بلاغاتهم
ضد حبيب العادلى والضباط المتهمين بالقتل والاعتداء على المتظاهرين بل
يعترف لى مصاب بأنه حصل على عشرين ألف جنيه لكى يتنازل عن بلاغه لأن الضابط
الذى أطلق عليه النار مازال فى الخدمة فى نفس موقعه وقال له ولأبيه «لو
أنا ما أذيتكش هييجى الضابط اللى بعدى وهيإذيك» مهازل تتكشف كل يوم حول
الأموال المهربة وتساؤلات تثور دون إجابة حول الدور الذى لعبه أحمد شفيق فى
هذا الملف خلال فترة ما بعد رحيل مبارك وهى الفترة التى شهدت سخطا عاما
ضده ولم يبق فى منصبه إلا لأن المجلس الأعلى أراد بقاءه أسئلة حول هروب
حسين سالم من مصر رغم أن القاصى والدانى يعلم كونه الوحيد الذى يعلم كل شىء
عن ثروات مبارك ورجاله بل إنه فى حد ذاته أكبر تهمة يمكن أن يحاكم بها
مبارك،
لا أدرى هنا هل قرأ المجلس الأعلى ما نشرته صحيفة «روزاليوسف» حول كون
حسين سالم يمتلك وثيقة سفر إسرائيلية نشرت صورتها على الملأ وهل يجب أن
يجعلنا ذلك نكتفى بمحاكمته غيابيا قبل أن نعرف أصلا من الذى سمح له بالهروب
حسم أعنف من اللازم فى مواجهة الثائرين وتراخٍ أكثر من المقبول فى مواجهة
المتطرفين والمتشددين تباطؤ فى اتخاذ إجراءات صارمة ضد التراخى الأمنى رغم
أن بعض قادة الجيش قال لعدد من المثقفين فى أكثر من لقاء إنهم يمتلكون
حلولا لذلك الأداء الأمنى المتعثر دون أن نرى ذلك على أرض الواقع استمرار
فى سياسة العناد التى تصر على إبقاء مسؤولين غير أكفاء أمثال الدكتور يحيى
الجمل والدكتور سامى الشريف رغم أن كل ما يقومون به من أخطاء لا يتحملونها
هم بل يتحملها المجلس العسكرى الذى يحتاج إلى من يخفف عنه الأعباء ولا
يزيدها اتخاذ قرارات خاطئة فى تعيين المحافظين والإبقاء على رؤساء الجامعات
والعمداء والمجالس المحلية
بزعم مراعاة القانون رغم أن الإعلان الدستورى أصبح يشكل مرجعا قانونيا
جديدا يمكن أن تصدر قرارات جديدة من وحيه وأظن أن المجلس يمتلك رصيدا من
فقهاء القانون المتعاونين معه والذين لن يألوا جهدا فى إيجاد مخارج قانونية
تساعد على تخفيف بؤر التوتر فى البلاد إذا توافرت الإرادة السياسية وأخيرا
الإصرار على عدم تفعيل المواد الموجودة فى القانون التى يمكن أن يحاكم بها
رجال مبارك بتهمة الفساد السياسى، أو حتى تشريع قوانين جديدة بزعم أن ذلك
سيكون مسؤولية البرلمان القادم مع أن المجلس ذاته يقوم بسن قوانين جديدة
دون أن ينتظر البرلمان القادم.
بذمتك ودينك ألا تشكل كل هذه التفاصيل، وهى غيض من فيض، أساسا كافيا
لانطلاق موجة غضب تهدف إلى أن تعيش مصر ثورة كاملة وفرحة غير مقطومة، أرجوك
أن تفكر جيدا فى كل ما قلته، ولو اقتنعت به فسننتظرك غدا فى ميادين
التحرير لكى تهتف معنا مطالبا المجلس العسكرى بأن يتذكر تعهده بتحقيق جميع
مطالب الثورة دون تباطؤ أو تراخٍ، فالتباطؤ وحده هو الذى يوقد نيران
التشدد، والتراخى هو الذى يمنح الفوضويين شرعيتهم، والعدالة الكاملة وحدها
هى التى يمكن أن تحيل ميدان التحرير إلى مزار سياحى بدلا من أن يكون مزارا
للثائرين الغاضبين والحالمين بمصر جديدة لا شِيَة فيها.
حى على التحرير، وتحيا مصر.
المصدر / المصري اليوم