ع اللــــــي جــــرىمقال للكاتب والمفكر السياسي المميز
بلال فضل
بتاريخ : 18/11/2011
لا أدرى لمن سيكون أمر المنصات اليوم فى ميدان التحرير، لكن ما أدريه
أنه لو كان أمرها بيدى لاخترت أن تكون الأغنية الرسمية لمليونية اليوم
أغنية (ع اللى جرى)، طيب والله بجد أقترح وأسأل: هل يمكن أن يتجاوز الإخوة
المتشددون قليلا ويصموا آذانهم بعض الوقت لكى يتاح لمصر كلها أن تستمع
إلى هذه الأغنية وهى تتأمل ما حدث فيها ولها طيلة الأشهر التسعة الماضية،
لا أعنى فقط مصر الحاضرة اليوم فى الميدان بل أعنى أيضا مصر الغائبة عنه
ومصر المراقبة له ومصر المتوجسة خيفة منه ومصر المتطلعة إليه أملا فيه،
الكل بحاجة إلى أن يترك نفسه قليلا للشجن المرير الذى ينبعث مع صوت عليا
التونسية وهى تشدو بتلك الجملة الساحرة التى تحمل بداخلها معانى متعددة
للأسى والندم والتساؤل والتفكير والتذكر والتأمل والحسرة والحذر والتعلم
والأمل فى جملة واحدة «ع اللى جرى».
تخيل معى الأعداد التى ستصعد إلى الميدان أو ستراقبه من بعيد، وهى
تشترك جميعها فى ترديد تلك الآهات الطويلة الحزينة التى تُفتتَح بها
الأغنية، فتهتف كلها فى صوت واحد «آآآآآآآآآآآآآه آآآآآآآآآآآآه» وهى
تسترجع صورا من الذاكرة لها وهى تهتف بإيمان حقيقى «الجيش والشعب إيد
واحدة»، وتجرى فى الشوارع فِرحَة يوم خُلع الطاغية لتحتضن كل صاحب بدلة
عسكرية أيا كانت رتبته وتلتقط معه الصور التذكارية بكل فخر، دون أن تسأله
هل يؤمن حقا أن قائده الأعلى مبارك لا يستحق المحاكمة والحساب؟، وهل حقا
يؤمن أن من يحتضنهم الآن ناس خربوا البلد أم أنهم صنعوا مجده وأعادوا إليه
العزة والكرامة؟ وهل سيكون هو وقادته على قد آمال الناس وثقتهم فيهم أم
أنهم سيهدرون ثقة الناس ويخيّبون آمالهم فى تحقيق مطالب الثورة كما وعدوا
وصدقناهم ليس عن عجز أو يأس، بل عن إدراك أنهم خيارنا الوحيد حتى تأتى سلطة
مدنية منتخبة تخوض طريق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؟
تخيل كل واحد من الواقفين فى الميدان أو المراقبين له وهو يناجى صور
الشهداء المحفورة فى وجدانه قائلا لكل منهم بحُرقة حقيقية «ع اللى جرى..
بس اما تيجى وانا احكى لك ع اللى جرى»، قبل أن يحكى له بكل أسى عن بعض ما
جرى، عن سميرة إبراهيم تلك الثائرة الصعيدية الحرة المحجبة التى أخذوها من
قلب الميدان وأهانوا شرف مصر كلها بما قاموا به بحقها من حركات مهينة
لكشف عذريتها وكسر إرادتها، وبدلا من أن يرى كل قائد من قادة المجلس
العسكرى فيها ابنة له ويبكى بدل الدموع دما على ما جرى لها، استسهلوا
اتهامها بالخيانة ولم يستجيبوا لكل مطالبات الاعتذار والتحقيق فى تلك
الجريمة التى لن تسقط أبدا بالتقادم. عن مينا دانيال الذى سيبقى حاضرا إلى
الأبد فى ذهن كل من رآه وهو يحتضن أخاه محمد ويغنيان سويا فى قلب جنة
التحرير «ليه الثورة جميلة وحلوة وإنت معايا» قبل أن يجد نفسه بعد مصرعه
متهما ومطلوبا للحساب على أيدى من إذا لم يكونوا قد قتلوه فهم على الأقل لم
يحموه من قاتليه. عن التحية العسكرية التى تلقاها حرامية وقتلة أمام سمع
وبصر الملايين. عن البيادات العسكرية التى تلقتها أجساد شباب طاهر شريف
دفعه الحماس إلى أن يعبر عن حبه لبلاده بطريقته التى كان يمكن أن نختلف معه
فيها أو نناقشه أو نحاوره أو نزجره، لكن قادة المجلس العسكرى اختاروا
طريقا آخر هو قمعه والتنكيل به والهتاف فيه أن ينزل على ركبه ذليلا مهانا
كأنه هو المجرم العتيد الذى نهب مصر وخربها وقعد على تلها.
سنحكى للشهداء ع اللى جرى، عن كل شهيد قتله حجر غادر أو رصاصة حقيرة أو
مدرعة مرتبكة ولم يجد من يكشف للناس حقيقة مقتله ويقدم قاتله إلى العدالة
فتهدأ النفوس وتصفو بدلا من أن تزداد مرارة وحنقا. عن قتلة الشهداء الذين
عوملوا بمنتهى الرقة والحنان، بينما عومل أهاليهم الثكلى والمفجوعون
بمنتهى القسوة والخسة. عن دم طاهر لم يقدره حق قدره الذين ظننا أنهم
سيعرفون قيمة الدم أكثر منا. عن شباب حُرموا حق مقاضاتهم أمام قاضيهم
الطبيعى وذهبوا إلى محاكمات عسكرية لم يذهب إليها الذين أهانوا شرف مصر
وقزّموها وجعلوها عالة على الأمم. عن الجدع علاء عبد الفتاح الذى رفض أن
يشترك فى المسرحية التى تساوى بين الضحية والجلاد فانحاز إلى عدل الله
الذى زعموا أنه لا يؤمن به، بينما سكت عن الظلم الذى لا يرضاه الله، كثيرٌ
ممن يزعمون أنهم يدافعون عن شرع الله.
سنحكى عن عدالة اجتماعية ظن الناس أنها إذا لم تتحقق فورا فإنهم يمكن
أن يروا ولو حتى أملا محسوبا يعدهم بها فتهدأ نفوسهم وتقر أعينهم. عن
متاهة الوعود والخطط وبالونات الاختبار والتصريحات المدهونة بزبدة
والمحاكمات البطيئة والقرارات التى تصب الزيت على نيران الفتنة عمدا أو
عجزا. عن أحلام علقناها على رئيس وزراء حملناه على أكتافنا فوضع أحلامنا
تحت حذائه، واختار أن يكون موظفا ذليلا خانعا بدلا من أن يكون شامخا مثل
الثورة التى منحته ما لا يستحق. عن رجل اسمه المشير محمد حسين طنطاوى جاءته
فرصة لم يكن يحلم بها لكى يسجل نفسه فى كتب التاريخ بحروف من ذهب فاختار
أن يهيل على نفسه غبار التساؤلات والشكوك ويعادى جيلا ثائرا كان ينبغى أن
يكرمه وينحنى له كل يوم إجلالا وتقديرا لأنه وقف فى مواجهة آلة القمع أعزل
فى نفس الوقت الذى كان يأمر فيه قادته وجنوده بأن يقفوا على الحياد بين
القتلة والضحايا.
سنحكى ع اللى جرى للشهداء وللدنيا ولأنفسنا ونحن نغنى من مقام الأسى
«متغربين احنا.. متغربين.. تجرى السنين واحنا جرح السنين.. ما حد قال عنك
خبر يفرحنا.. ولا حد جاب منك كلمة تريّحنا.. يا ليل آه.. يا جرح آه.. يا
شعب آه.. الصبر دوبناه.. تهنا وتوّهناه.. وتاهت المراسيل.. بين النهار
والليل.. مافضلش غير دمعة مرسومة فى المناديل.. ع اللى جرى».
لكن الأغنية ستنتهى، ومعها سينتهى حتما كل أسانا وكل ألمنا، ستنتهى
رغبتنا فى تذكر كل اللى جرى والتعلم منه، وسيبدأ فصل جديد من فصول ثورة
قامت لكى تعيش مصر فرحة كاملة، وسالت فيها الدماء لكى يحظى المصرى بحرية
غير منقوصة، وطارت فيها الأعين لكى ترى مصر نور العدالة. سنبقى مختلفين
بعضنا مع بعض فى تفاصيل شتى، وسيظن بعض اليائسين أن فشل هذه الجولة أو تلك
هو فشل للثورة، وسيتوهم كل الفاسدين أن الشعب المصرى يمكن أن يعود إلى
سباته ثانية، وسينسون أنه ربما يصمت ويعدّيها إلى حين، لأنه ما زال يرى
بصيص أمل اسمه صندوق الانتخابات يدرك أنه وحده الذى سيأتى له بأناس يأخذون
حقوق الشهداء والجرحى وينصفون المظلومين والمنتهكَين فى المحاكم
العسكرية، ولذلك وحده تتجمل الملايين الثائرة بالصبر، لكنها لن تتسامح أبدا
مع من يعبث بإرادتها أو يزيفها أو يظن أنه يمكن أن يعيد إنتاج العهد
البائد ثانية ويحرم المصريين من أن يكونوا بنى آدمين بحق وحقيق، ككل خلق
الله فى بلاد الله المتقدمة الحرة المتحضرة.
أيا كانت التفاصيل، وأيا كان اللى جرى، ستنتصر إرادة الحياة، وسيعلم الذين ظلموا أىَّ منقلب ينقلبون.